بقلم الأستاذ الباحث : أباشيخ أباحاج
إن كل من نظر إلى القوانين العرفية الصحراوية يجد نفسه أمام قوانين تنظيمية محكمة، سطرتها أيادي خيرة أهل الصحراء ممن أبدعوا في نصب قانون تنظيمي للحياة الإجتماعية والسياسية والدينية لأهل المنطقة، وهو ما فرضت العمل به “الجماعة” أو “ايت أربعين” الساهرة على تنزيل العقوبات والأحكام على مستحقيها. وتأتي هذه الأعراف التنظيمية التي سطرتها الجماعة ملزمة للجميع، وتهدف إلى استتباب السلم والأمن في المنطقة التي وصفت يومئذ بالتسيب والفوضى، لغياب هيمنة السلطان الحاكم القاطع للنزاع والخصومة، فقامت مقامه الجماعة، وفي ذلك يقول محمد سالم بن عبد الحي:” والجماعة عندهم تقوم مقام الحاكم، وجعلوا هذا كله عادة محكمة عندهم ويسمون هذه العقوبة كلها إنصاف”(1). فكان لزاما على الجماعة أن تنتصب لسد الفراغ السياسي، لأن ذلك من الضروريات الحياتية، وقد صدق ابن خلدون حين قال:” إن قيام الحياة الإجتماعية وبالتالي بقاء النوع الإنساني، يتطلب وجود نوع من السلطة تحفظ للمجتمع تماسكه وتعمل على تقوية التعاون بين أفراده، وكبح عدوان بعضهم على بعض، كأفراد أو جماعات”(2). وقد نجحت الجماعة في الصحراء من خلال سنها للعقوبات الرادعة للعصاةِ والظَّلَمَةِ في استتباب السلم والأمن إلى حد كبير، وقامت على تسيير شؤون المجتمع بما يستدعي منا جميعا الفخر بؤلائك القادة والسادة الذين سخروا وقتهم ومالهم لقيام مجتمعهم أحسن قيام، وجعلوا من مساكن مجتمعهم أفضل خيام. وقد صدق الباحث محمد العثماني حين قال:” نجزم جزما قاطعا أن أجدادنا لو لم يقوموا بما قاموا به في تلك العصور المظلمة لسادت الفوضى ولأتت على الأخضر واليابس، فليس من رأى كمن سمع، كما أن ما تتمالأ عليه القبيلة في ألواحها، وما يؤخذ من المفسدين من غرامات مالية أباحها من قديم بعض العلماء، ومثل هذا لا يخلو منه بلد”(3). وهذا النجاح الباهر الذي استطاعت الجماعة من خلاله التحكم في مجتمع مترامي الأطراف، هو ما جعل المستعمر الاسباني يعطيه طابع قانوني لأهميته في نشر الأمن والعدل في المنطقة، ولذلك قال عبد العزيز بنعبد الله في معلمة الفقه المالكي:” مما جعل اسبانيا تعطي للعرف الصحراوي في الساقية الحمراء وواد الذهب صبغة قانونية، حيث تقدمت عام 1960م إلى مجلس الكورطيس بمشروع في الموضوع”(4). ومن هذه القوانين الزجرية على سبيل المثال لا الحصر، قانون قبيلة الرقيبات؛ إذ قال القاضي محمد سالم ولد عبد الحي:” وهذا وإن الرقيبات جعلت زواجر وجدتها درءا للمفسدة وجلبا للمصلحة، وجرت بها عادتهم من قديم الزمن، وهي:_كل من سرق شيئا يغرم مثله أربعا، لكل ناقة أربعة نياق، وكل شاة أربع شياه._ومن افتتن منهم يعطي جذعا للمقدم وقومه أو الجماعة._ومن سل سكينا ولم يطعن بها يعطي بيصة، وإن طعن فكالجراحات._ومن سل مدفعا ولم يرم به يعطي حقا يعقر._ومن رمى أحدا برصاصة يرضى الرمي بذلك المدفع ومعه جزور تعقر._ومن جر أمرا فيه فشل للقبيلة يعطي حقا لأيت أربعين أو الجماعة، وربما نبذوه أو تبرؤا منه إن لم يرجع._ومن دخل في خيمة أحد وقصده الدخول على المرأة يعطي جذعا للرجل، ويتعدد ذلك بقدر الدخول وربما يقتله الزوج، والأكثر في أحواله إهدار دمه إن قتله في مكانه._وإن ضرب الرجل زوجته وفعل بها ما هو دون القتل لا يرضيها، وفعله فيها هدر، وتقع هي عندهم في العيب وعند صواحباتها كذلك._وإن نزل المطر وامتلأت الأضاء واجتمع الناس عندها فإن كل من دخلت إبله في الأضاء على وجه العمد ينحر منها المقدم وقومه حقا._ومن منع الشريعة لأحد طلبها منه يعطي حقا لايت أربعين أو الجماعة، ولا بد من إعطاء الشريعة._ومن جفا القاضي يعطي حقا لايت أربعين أو الجماعة إن كان ظالما له._ومن أذى أحدا أو شتمه يذبح له شاة جبرا لخاطره”(5). فمن خلال هذا القانون العرفي يظهر أنه شامل للكثير من الجزئيات التنظيمية للحياة الصحراوية، ما عدا الجراحات والدماء فإن لهما أحكام عرفية مستقلة بحجم الفعل أو الجرم، والعمد أو الخطأ. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه._____________________<>1_جوامع المهمات في أمور الرقيبات لمحمد سالم بن عبد الحي، ص: 83.2_فكر ابن خلدون العصبية والدولة لمحمد عابد الجابري، ص: 163.3_ألواح جزولة والتشريع الإسلامي لمحمد العثماني، ص: 144.4_معلمة الفقه المالكي لعبد العزيز بنعبد الله، ص: 33.5_جوامع المهمات في أمور الرقيبات لمحمد سالم بن لحبيب بن عبد الحي، ص: 82.