الخطاب الملكي يرسم ملامح مرحلة جديدة من التنمية والجدية ودعوة لتعبئة شاملة وعدالة مجالية واجتماعية حقيقية

- صوت السمارة
الخطاب الملكي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحالية، جاء ليشكل لحظة سياسية وفكرية عميقة، تتجاوز البعد البروتوكولي المعتاد نحو إعادة ضبط إيقاع العمل المؤسساتي، وترسيخ منطلقات جديدة لمرحلة مفصلية من تاريخ المغرب التنموي والسياسي.
فالخطاب في جوهره هو إعلان عن استمرار رؤية ملكية متكاملة، تضع المواطن في قلب كل المشاريع والبرامج، وتؤكد أن روح الجدية والمسؤولية يجب أن تظل البوصلة التي تهدي كل الفاعلين داخل الدولة والمجتمع. وقد تميز الخطاب بوضوح الرسائل وصرامة المضمون، وهو ما يعكس حرص جلالة الملك على الانتقال من التشخيص إلى الفعل، ومن البرامج إلى النتائج الملموسة التي يشعر بها المواطن المغربي في حياته اليومية.
منذ مستهل الخطاب وجه جلالته نداء صريحا إلى النواب، داعيا إياهم إلى استثمار السنة التشريعية الأخيرة من ولايتهم في العمل الفعلي والميداني، واستكمال ما بدأ من مشاريع تشريعية وتنموية، بعيدا عن الحسابات الانتخابية أو المناورات السياسية. هذه الدعوة تمثل تأكيدا جديدا على أن الممارسة الديمقراطية في فلسفة جلالة الملك ليست غاية في ذاتها، فهي وسيلة لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية. فالإصلاح الحقيقي لا يقاس بعدد القوانين أو حجم الخطابات، لكن بمدى تأثيرها على المواطن وقدرتها على تحسين واقعه.
واحدة من النقاط البارزة في الخطاب الملكي هي التأكيد على ضرورة الانسجام بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية باعتبار أن الهدف الأسمى هو خدمة المواطن وتنمية البلاد بشكل متوازن. هذا التوجيه يعيد ضبط العلاقة بين البنية التحتية الضخمة والمشاريع القاعدية، وبين الاقتصاد الكلي والسياسات الاجتماعية، ليقول بوضوح إن التنمية الشاملة لا تتحقق إلا حين تتكامل الجهود ولا تتنازعها المصالح.
كما خص جلالته الإعلام والأحزاب والمنتخبين بدعوة صريحة لتحمل مسؤوليتهم في تأطير المواطنين والتواصل معهم بصدق وفعالية، في إشارة إلى أن ضعف التواصل المؤسساتي كان ولا يزال أحد أبرز الإشكالات التي تواجه العمل العمومي. فالمواطن كما جاء في الخطاب يحتاج إلى تواصل يشرح له السياسات ويعرفه بحقوقه وواجباته، ويجعل منه شريكا فاعلا في بناء الوطن.
وفي هذا السياق يظهر بجلاء أن جلالة الملك ينظر إلى الإعلام، والأحزاب، والمجتمع المدني كأعمدة متكاملة داخل مشروع التنمية الوطنية. فالرسالة هنا موجهة لكل الفاعلين.
من جهة أخرى رسم الخطاب الملكي ملامح مرحلة جديدة من “العدالة المجالية والاجتماعية”، مؤكدا أن هذه القضية هي توجه استراتيجي للدولة المغربية
وليست شعارا عاطفيا أو سياسة ظرفية. فالمناطق الجبلية والواحات والجهات النائية التي كانت تعاني لسنوات من ضعف الاهتمام، أصبحت اليوم في قلب الاهتمام الملكي، من خلال الدعوة إلى سياسات مندمجة تراعي خصوصياتها وحاجياتها التنموية.
وفي نفس الاتجاه دعا جلالته إلى التفعيل الأمثل للقانون المتعلق بالساحل والمخطط الوطني للسواحل، بما يحقق توازنا بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة، في خطوة تعكس بوضوح أن المغرب يتبنى نموذجا للتنمية المستدامة لا ينفصل فيه الاقتصاد عن الإيكولوجيا. كما أشار إلى ضرورة توسيع برنامج المراكز القروية الناشئة، لما له من دور في تقريب الخدمات الإدارية والاجتماعية من المواطنين بالعالم القروي والحد من التفاوتات بين المدينة والقرية.
ومن الرسائل العميقة التي يمكن استنباطها من الخطاب الملكي أيضا، تأكيده على أهمية تغيير العقليات في تدبير الشأن العام. فالتحول المنشود لا يمكن أن يتحقق فقط عبر ضخ الموارد أو إصدار القوانين، فتحقيقه يجب أن يكون من خلال إرساء ثقافة جديدة قائمة على النجاعة والمردودية والنتائج الملموسة. جلالته كان واضحا حين قال إن التهاون في نجاعة الاستثمار العمومي أمر غير مقبول، وهي عبارة تختزل فلسفة الحكم الرشيد التي تقوم على المساءلة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
كما أن دعوة جلالته إلى التعبئة الوطنية الشاملة حول مشروع “المغرب الصاعد” تشي برؤية طموحة تتجاوز الزمن الحكومي والبرلماني، وتضع المغرب أمام تحدي بناء نموذج تنموي جديد، ينسجم مع طموحات الأجيال المقبلة ويواكب التحولات العالمية. فالمغرب الذي يريده الملك هو وطن موحد في تنوعه، قوي بعدالته ومنفتح في مؤسساته، متجذر في هويته وماضيه، لكنه يتطلع إلى المستقبل بعقلانية وإرادة.
وإذا كان الخطاب الملكي قد ركز على البرلمان كمحطة أساسية، فإنه في العمق كان موجها لكل المغاربة، مؤسسات ومجتمعات وأفرادا. لأن التنمية كما يرى جلالته، لا يمكن أن تكون مسؤولية الحكومة وحدها، فهي هي شأن وطني جامع يتطلب تضافر الجهود بين الدولة والمجتمع.
في المحصلة يمكن القول إن هذا الخطاب جاء ليجدد الثقة في المؤسسات، ويعيد التأكيد على أن المغرب يسير بخطى ثابتة نحو مرحلة جديدة من التحديث والإصلاح المتدرج، قائمة على العدالة والجدية والالتزام الجماعي. كما أنه دعوة مفتوحة إلى استثمار ما تحقق خلال العقدين الأخيرين من مكاسب سياسية وتنموية وتثمينها عبر مزيد من الانفتاح والمساءلة الفعالة.
الخطاب الملكي هو إذن نداء للضمير الوطني ونداء للفاعلين كي يتجاوزوا الحسابات الضيقة ويستحضروا المصلحة العليا للوطن. وهو في الآن ذاته درس في فن القيادة الرشيدة، إذ استطاع جلالة الملك محمد السادس أن يربط بين الواقعية السياسية والطموح الوطني، بين التخطيط الاستراتيجي والتأثير الإنساني، ليبقى المغرب كما أراده جلالته دوما وطنا في تقدم مستمر وشعبا متشبثا بثوابته، ومؤمنا بأن المستقبل يصنع بالعمل لا بالانتظار.